مهلبية جوز هند


في لوحة الحروف كنت أتساءل لماذا أنجذب دائما نحو صورة الهدهد. الغريب أنني لم أكن أشعر بذلك حينما أراه خارج اللوحة. لكنني حتما سأعرف السر. في نهاية طريق ما هناك دائما إجابة. كل ما عليّ أن أؤمن بذلك و أن أسلك كل الطرق.

و مرت الأيام. لكن كما في المسلسلات.. أحيانا تمر ١٠٠ سنة في دقيقة.. في قصتنا تمر ٢٠ سنة في سطرين، أو ربما أنا أكتب حقا في سطرين منذ ٢٠ سنة!


......


(بعد ٢٠ سنة)

في قريتنا عيب تحضير المهلبية من غير "جوز هند". في الشوكولاتة الفاخر فقط فيه "جوز هند". كنت دائما أستغرب، لماذا كل هذه الجلبة لـ "جوز" دائما يجر وراءه "هند"، دائما ينسب نفسه لها. لا أعلم "جوز" آخر يفعل ذلك. انتابني الفضول فذهبت أتسكع في القاموس، و بالصدفة لمحتهما معًا. حينها عرفت أن شرف جوز الهند نابع من فضل هند. بالأخص تلك الضفيرة الجميلة المعقودة في رأسها (هـ).


......


 و فجأة بدأت أفكر بطريقة غريبة:

في رمضان، لا يروي العطش غير “تمر هند”!

في المعارك، لا يفتك بالقلوب غير “سيوف هند”!

حتى المدعو مهند كما يبدو، ليس وسيم في نفسه، هو فقط فيه “هند”!

كل الشعراء غنوا لـ “هند”!

و كأنها فتنة أصابت كل شيء أفكر فيه.

كل شيء يتمحور حول “هند”.. يطوف حول “هند”!

حتى قبل الإسلام، هجر بعضهم الأصنام، و مثل عيسى عبدوا هند.

لم أعد أشعر بالأمان بمجرد أن بدأت أفكر بهذه الطريقة.

كم هي قوية.. الحروف يمكن أن تصنع آلهة.

لأجل ضفيرتها عبدوا “هند”!

لأجل هاء "هند"!

و لأجل نفس الضفيرة -اكتشفت- كنت أسرح طويلا عند صورة “الهدهد” في لوحة الحروف!


......


و من فتنة حرف واحد استحضرت ما يمكن أن تصنعه كل الحروف!

٢٨ حرف تحدد كل شيء. تصوغ كل الكلمات. كل هذه الجمل و الأحاديث. كل تلك المشاعر و الأحاسيس.

تُقِيم الحروب. توجه الشعوب. تحكم كل شيء!

هل نحن نحكم الحروف.. أم الحروف تحكمنا؟

في جملة كل الأشياء التي أصبحت تسير بالمقلوب..

ربما أنا لست بناطق .. ربما أنا مجرد منطوق!

فقط ٢٨ حرف.. ٢٨ شخص.. أو شخص واحد فقط يعلم أن يرقد الكلام!


......


يا إلهي!

ماذا لو كانت الحياة حلم طويل.. وهم كبير.. 

أو أنني في الحقيقة أنام حينما أستيقظ.. و أستيقظ حينما أنام!  

هذا يجعل كل أحلامي القديمة حقيقة! 

كل الوحوش.. كل الخدوش.

كل الطيور ... كل الزهور.

طوال حياتي أردد سورة الكهف. لكني الآن فقط فهمت.. فيا ترى كم لبثت؟


......


و بعد أن كتبت أغنية الحروف و الكلمات،  بدأت أفكر بين سطورها:

نكتة، تفقدك صوابك من الضحك.

نشيد، يلهب نار الحماس و الوطنية.

كلمة، تنهي مستقبل.. تكسر قلب.. تجبر خاطر.. أو تريح بال و ترسم ابتسامة.

خطبة، يمكن أن ينتفض لها كل جوارحك.

و حرفين في كلمة "آه" تهون آلام قد لا تسكنها كل المخدرات.


......


ثم تذكرت حروف و كلمات امرأة نمامة في حيّنا.

كانت ذات مرة تشمئز من مشهد عنيف. فقلت لها:

"لماذا تشمئزين هكذا؟

هناك اشياء اصعب بكتير من التمثيل بجثة مهلهلة.

هناك صلب جسد حيّ.. تشهير بإنسان بريء.. أو غيبة في ظهر أحدهم.

أليس هذا ما كنت تفعلينه منذ قليل؟!!"


......


كل البراهين تثبت قوة خارقة تمتلكها الكلمات.. الكلمات الصحيحة.

و كأنها معجزة. الفرق أن كل المعجزات تبلى:

أين عصى موسى؟!

هدهد سليمان؟!

ناقة صالح؟!

سفينة نوح؟!

عصفور عيسى؟!

لم يبقَ سوى سحر الكلمات.

طاقة.. تحملها كتب.. يمكنها صهر الواقع.. لتعيد تشكيل الحياة.


......


بدأ صديقي يؤمن أن بعض الكتب تضم طاقة تفوق قدرتها التعاويذ السحرية. كان يحب أن يسمي تلك الطاقة آيات. أقرضني ذات مرة تعويذة.. أقصد آية.

تلوتها.. فلم يحدث شيء!

كررتها.. فلم أشعر بشيء!

حينها ابتسم و قال: "مرت ١٤٠٠ سنة.. تحتاج اليوم قاموس العاميّة".

فتحت القاموس.. بحثت عن معنى "جوامع الكلم".. وجدته "كلام عميق".. و فجأة شيء ما بدأ يهتز حولي.. فقلت "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"


(النهاية)


Comments